كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْه آخَر صَحِيح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ: يُرِيد يَوْم الْقِيَامَة، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ يُطْلَق وَيُرَاد النَّفْس، وَقَوْله فِيهِ «وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُد لِلَّهِ رِيَاء وَسُمْعَة فَيَذْهَب كَيْمَا يَسْجُد فَيَعُود ظَهْره طَبَقًا وَاحِدًا» ذَكَرَ الْعَلَّامَة جَمَال الدِّين بْن هِشَام فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْبُخَارِيّ فِي هَذَا الْمَوْضِع «كَيْمَا» مُجَرَّدَة وَلَيْسَ بَعْدهَا لَفْظ يَسْجُد فَقَالَ بَعْد أَنْ حَكَى عَنْ الْكُوفِيِّينَ: إِنَّ كَيْ نَاصِبَة دَائِمًا، قَالَ وَيَرُدّهُ قَوْلهمْ كَيْمَه كَمَا يَقُولُونَ لِمَه، وَأَجَابُوا بِأَنَّ التَّقْدِير كَيْ تَفْعَل مَاذَا، وَيَلْزَمهُمْ كَثْرَة الْحَذْف وَإِخْرَاج مَا الِاسْتِفْهَامِيَّة عَنْ الصَّدْر وَحَذْف أَلِفهَا فِي غَيْر الْجَرّ، وَحَذْف الْفِعْل الْمَنْصُوب مَعَ بَقَاء عَامِل النَّصْب وَكُلّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُت، نَعَمْ وَقَعَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ فِي تَفْسِير {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة} فَيَذْهَب كَيْمَا فَيَعُود ظَهْره طَبَقًا وَاحِدًا، أَيْ كَيْمَا يَسْجُد، وَهُوَ غَرِيب جِدًّا لَا يَحْتَمِل الْقِيَاس عَلَيْهِ اِنْتَهَى كَلَامه. وَكَأَنَّهُ وَقَعَتْ لَهُ نُسْخَة سَقَطَتْ مِنْهَا هَذِهِ اللَّفْظَة؛ لَكِنَّهَا ثَابِتَة فِي جَمِيع النُّسَخ الَّتِي وَقَفْت عَلَيْهَا حَتَّى أَنَّ اِبْن بَطَّال ذَكَرَهَا بِلَفْظِ «كَيْ يَسْجُد» بِحَذْفِ مَا، وَكَلَام اِبْن هِشَام يُوهِمُ أَنَّ الْبُخَارِيّ أَوْرَدَهُ فِي التَّفْسِير، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ ذَكَرَهَا هُنَا فَقَطْ، وَقَوْله فِيهِ «فَيَعُود ظَهْره طَبَقًا وَاحِدًا» قَالَ اِبْن بَطَّال تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَجَازَ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق مِنْ الْأَشَاعِرَة وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقِصَّةِ أَبِي لَهَب، وَأَنَّ اللَّه كَلَّفَهُ الْإِيمَان بِهِ مَعَ إِعْلَامه بِأَنَّهُ يَمُوت عَلَى الْكُفْر وَيَصْلَى نَارًا ذَات لَهَب، قَالَ: وَمَنَعَ الْفُقَهَاء مِنْ ذَلِكَ وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّف اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا} وَأَجَابُوا عَنْ السُّجُود بِأَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إِلَيْهِ تَبْكِيتًا إِذْ أَدْخَلُوا أَنْفُسهمْ فِي الْمُؤْمِنِينَ السَّاجِدِينَ فِي الدُّنْيَا فَدُعُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى السُّجُود فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ فَأَظْهَرَ اللَّه بِذَلِكَ نِفَاقهمْ وَأَخْزَاهُمْ، قَالَ: وَمِثْله مِنْ التَّبْكِيت مَا يُقَال لَهُمْ بَعْد ذَلِكَ {اِرْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} وَلَيْسَ فِي هَذَا تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق بَلْ إِظْهَار خِزْيهمْ، وَمِثْله مَنْ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِد شَعِيرَة فَإِنَّهَا لِلزِّيَادَةِ فِي التَّوْبِيخ وَالْعُقُوبَة اِنْتَهَى. وَلَمْ يَجِب عَنْ قِصَّة أَبِي لَهَب وَقَدْ اِدَّعَى بَعْضهمْ أَنَّ مَسْأَلَة تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق لَمْ تَقَع إِلَّا بِالْإِيمَانِ فَقَطْ، وَهِيَ مَسْأَلَة طَوِيلَة الذَّيْل لَيْسَ هَذَا مَوْضِع ذِكْرهَا، وَقَوْله: «قَالَ مَدْحَضَة مَزِلَّة» بِفَتْحِ الْمِيم وَكَسْر الزَّاي وَيَجُوز فَتْحهَا وَتَشْدِيد اللَّام، قَالَ: أَيْ مَوْضِع الزَّلَل وَيُقَال بِالْكَسْرِ فِي الْمَكَان وَبِالْفَتْحِ فِي الْمَقَال، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي ذَرّ عَنْ الْكُشْمِيهَنِيِّ هُنَا الدَّحْض الزَّلَق، لِيَدْحَضُوا لِيَزْلَقُوا زَلَقًا لَا يَثْبُت فِيهِ قَدَم، وَهَذَا قَدْ تَقَدَّمَ لَهُمْ فِي تَفْسِير سُورَة الْكَهْف، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ الْكَلَام عَلَيْهِ، وَقَوْله: «عَلَيْهِ خَطَاطِيف وَكَلَالِيب» تَقَدَّمَ بَيَانه، وَقَوْله: «وَحَسَكَة» بِفَتْحِ الْحَاء وَالسِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ قَالَ صَاحِب التَّهْذِيب وَغَيْره الْحَسَك نَبَات لَهُ ثَمَر خَشِن يَتَعَلَّق بِأَصْوَافِ الْغَنَم وَرُبَّمَا اُتُّخِذَ مِثْله مِنْ حَدِيد وَهُوَ مِنْ آلَات الْحَرْب، وَقَوْله: «مُفَلْطَحَة» بِضَمِّ الْمِيم وَفَتْح الْفَاء وَسُكُون اللَّام بَعْدهَا طَاء ثُمَّ حَاء مُهْمَلَتَانِ كَذَا وَقَعَ عِنْد الْأَكْثَر، وَفِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ «مُطَلْفَحَة» بِتَقْدِيمِ الطَّاء وَتَأْخِير الْفَاء وَاللَّام قَبْلهَا وَلِبَعْضِهِمْ كَالْأَوَّلِ لَكِنْ بِتَقْدِيمِ الْحَاء عَلَى الطَّاء وَالْأَوَّل هُوَ الْمَعْرُوف فِي اللُّغَة وَهُوَ الَّذِي فِيهِ اِتِّسَاع وَهُوَ عَرِيض، يُقَال: فَلْطَحَ الْقُرْص بَسَطَهُ وَعَرَّضَهُ، وَقَوْله شَوْكَة عَقِيفَة بِالْقَافِ ثُمَّ الْفَاء وَزْن عَظِيمَة، وَلِبَعْضِهِمْ عُقَيْفَاء بِصِيغَةِ التَّصْغِير مَمْدُود.
تَنْبِيهٌ:
قَرَأْت فِي تَنْقِيح الزَّرْكَشِيّ وَقَعَ هُنَا فِي حَدِيث أَبِي سَعِيد بَعْد شَفَاعَة الْأَنْبِيَاء فَيَقُول اللَّه: بَقِيَتْ شَفَاعَتِي فَيُخْرِجُ مِنْ النَّار مَنْ لَمْ يَعْمَل خَيْرًا، وَتَمَسَّكَ بِهِ بَعْضهمْ فِي تَجْوِيز إِخْرَاج غَيْر الْمُؤْمِنِينَ مِنْ النَّار وَرُدَّ بِوَجْهَيْنِ أَحَدهمَا أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَة ضَعِيفَة؛ لِأَنَّهَا غَيْر مُتَّصِلَة كَمَا قَالَ عَبْد الْحَقّ فِي الْجَمْع، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَاد بِالْخَيْرِ الْمَنْفِيّ مَا زَادَ عَلَى أَصْل الْإِقْرَار بِالشَّهَادَتَيْنِ، كَمَا تَدُلّ عَلَيْهِ بَقِيَّة الْأَحَادِيث هَكَذَا قَالَ، وَالْوَجْه الْأَوَّل غَلَط مِنْهُ فَإِنَّ الرِّوَايَة مُتَّصِلَة هُنَا، وَأَمَّا نِسْبَة ذَلِكَ لِعَبْدِ الْحَقّ فَغَلَط عَلَى غَلَط؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ إِلَّا فِي طَرِيق أُخْرَى وَقَعَ فِيهَا: أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبه مِثْقَال حَبَّة خَرْدَل مِنْ خَيْر. قَالَ: هَذِهِ الرِّوَايَة غَيْر مُتَّصِلَة، وَلَمَّا سَاقَ حَدِيث أَبِي سَعِيد الَّذِي فِي هَذَا الْبَاب سَاقَهُ بِلَفْظِ الْبُخَارِيّ وَلَمْ يَتَعَقَّبهُ بِأَنَّهُ غَيْر مُتَّصِل وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَتَعَقَّبْنَاهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا اِنْقِطَاع فِي السَّنَد أَصْلًا، ثُمَّ إِنَّ لَفْظ حَدِيث أَبِي سَعِيد هُنَا لَيْسَ كَمَا سَاقَهُ الزَّرْكَشِيّ وَإِنَّمَا فِيهِ: فَيَقُول الْجَبَّار بَقِيَتْ شَفَاعَتِي فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدْ امْتُحِشُوا، ثُمَّ قَالَ فِي آخِره: فَيَقُول أَهْل الْجَنَّة هَؤُلَاءِ عُتَقَاء الرَّحْمَن أَدْخَلَهُمْ الْجَنَّة بِغَيْرِ عَمَل عَمِلُوهُ وَلَا خَيْر قَدَّمُوهُ، فَيَجُوز أَنْ يَكُون الزَّرْكَشِيّ ذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى.
حَدِيث أَنَس فِي الشَّفَاعَة وَقَدْ مَضَى شَرْحه مُسْتَوْفًى فِي بَاب صِفَة الْجَنَّة وَالنَّار مِنْ كِتَاب الرِّقَاق وَقَوْله هُنَا وَقَالَ حَجَّاج بْن مِنْهَال: حَدَّثَنَا هَمَّام كَذَا عِنْد الْجَمِيع إِلَّا فِي رِوَايَة أَبِي زَيْد الْمَرْوَزِيِّ عَنْ الْفَرَبْرِيّ، فَقَالَ فِيهَا حَدَّثَنَا حَجَّاج وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ طَرِيق إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم وَأَبُو نُعَيْم مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْنِ أَسْلَمَ الطُّوسِيِّ قَالَا حَدَّثَنَا حَجَّاج بْن مِنْهَال فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ وَسَاقُوا الْحَدِيث كُلّه إِلَّا النَّسَفِيّ فَسَاقَ مِنْهُ إِلَى قَوْله: «خَلَقَك اللَّه بِيَدِهِ» ثُمَّ قَالَ: فَذَكَرَ الْحَدِيث وَوَقَعَ لِأَبِي ذَرّ عَنْ الْحَمَوِيِّ نَحْوه لَكِنْ قَالَ وَذَكَرَ الْحَدِيث بِطُولِهِ بَعْد قَوْله: «حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ» وَنَحْوه لِلْكُشْمِيهَنِيِّ. وَقَوْله فِيهِ: «ثَلَاث كَذِبَات» فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِيّ: «ثَلَاث كَلِمَات» وَقَوْله: «فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَاره فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ» قَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا يُوهِم الْمَكَان وَاَللَّه مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ فِي دَاره الَّذِي اِتَّخَذَهَا لِأَوْلِيَائِهِ وَهِيَ الْجَنَّة وَهِيَ دَار السَّلَام، وَأُضِيفَتْ إِلَيْهِ إِضَافَة تَشْرِيف مِثْل بَيْت اللَّه وَحَرَم اللَّه، وَقَوْله فِيهِ: «قَالَ قَتَادَةُ سَمِعْته يَقُول فَأُخْرِجهُمْ» هُوَ مَوْصُول بِالسَّنَدِ الْمَذْكُور، وَوَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَسَمِعْته أَيْضًا يَقُول وَلِلْمُسْتَمْلِيّ: «وَسَمِعْته يَقُول: فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ» الْأَوَّل بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَضَمّ الرَّاء وَالثَّانِي بِضَمِّ الْهَمْزَة وَكَسْر الرَّاء.
6887- حَدِيث أَنَس: «اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْا اللَّه وَرَسُوله فَإِنِّي عَلَى الْحَوْض».
قَوْله فِي السَّنَد: (حَدَّثَنِي عَمِّي):
هُوَ يَعْقُوب بْن إِبْرَاهِيم بْن سَعْد وَأَبُوهُ هُوَ إِبْرَاهِيم بْن سَعْد بْن إِبْرَاهِيم بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف، وَلِيَعْقُوب فِيهِ شَيْخ آخَر أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ طَرِيقه أَيْضًا عَنْ اِبْن أَخِي اِبْن شِهَاب عَنْ عَمّه وَهِيَ أَعْلَى مِنْ رِوَايَته إِيَّاهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِح وَهُوَ اِبْن كَيْسَانَ عَنْ اِبْن شِهَاب الزُّهْرِيِّ.
قَوْله: (أَرْسَلَ إِلَى الْأَنْصَار فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّة):
كَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ هَذَا الْوَجْه وَقَالَ فِي أَوَّله «لَمَّا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله مَا أَفَاءَ مِنْ أَمْوَال هَوَازِن» ثُمَّ أَحَالَ بِبَقِيَّتِهِ عَلَى الرِّوَايَة الَّتِي قَبْلهَا مِنْ طَرِيق يُونُس عَنْ الزُّهْرِيِّ «فَطَفِقَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي رِجَالًا مِنْ قُرَيْش» فَذَكَرَ الْحَدِيث فِي مُعَاتَبَتهمْ، وَفِي آخِره «فَقَالُوا بَلَى يَا رَسُول اللَّه رَضِينَا، قَالَ فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ بَعْدِي أَثَرَة شَدِيدَة فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْا اللَّه وَرَسُوله، فَإِنِّي عَلَى الْحَوْض» وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ وَجْه آخَر فِي غَزْوَة حُنَيْنٍ وَسَاقَهُ مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن زَيْد بْن عَاصِم أَتَمَّ مِنْهُ، وَتَقَدَّمَ شَرْحه مُسْتَوْفًى هُنَاكَ بِحَمْدِ اللَّه تَعَالَى. وَالْغَرَض مِنْهُ هُنَا قَوْله: «حَتَّى تَلْقَوْا اللَّه وَرَسُوله» فَإِنَّهَا زِيَادَة لَمْ تَقَع فِي بَقِيَّة الطُّرُق، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِل الْفِتَن مِنْ رِوَايَة أَنَس عَنْ أُسَيْد بْن الْحُضَيْرِ فِي قِصَّة فِيهَا: «فَسَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَة فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي» وَتَرْجَمَ لَهُ فِي مَنَاقِب الْأَنْصَار: بَاب قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي لِلْأَنْصَارِ «اِصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْض» قَالَ الرَّاغِب: اللِّقَاء مُقَابَلَة الشَّيْء وَمُصَادَفَته، لَقِيَهُ يَلْقَاهُ وَيُقَال أَيْضًا فِي الْإِدْرَاك بِالْحِسِّ وَبِالْبَصِيرَةِ، ومنه: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْت مِنْ قَبْل أَنْ تَلْقَوْهُ} وَمُلَاقَاة اللَّه يُعَبَّر بِهَا عَنْ الْمَوْت وَعَنْ يَوْم الْقِيَامَة، وَقِيلَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة يَوْم التَّلَاقِي لِالْتِقَاءِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِيهِ.
6888- عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي الدُّعَاء عِنْد قِيَام اللَّيْل وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحه فِي أَوَائِل كِتَاب التَّهَجُّد مُسْتَوْفًى، وَالْغَرَض مِنْهُ قَوْله: «وَلِقَاءَك حَقّ» وَقَدْ ذَكَرْت مَا يَتَعَلَّق بِاللِّقَاءِ فِي الَّذِي قَبْله وَسُفْيَان فِي سَنَده هُوَ الثَّوْرِيّ، وَسُلَيْمَان هُوَ اِبْن أَبِي مُسْلِم، وَقَوْله فِيهِ وَقَالَ قَيْس بْن سَعْد وَأَبُو الزُّبَيْر عَنْ طَاوُسٍ قِيَام يُرِيد أَنَّ قَيْس بْن سَعْد رَوَى هَذَا الْحَدِيث عَنْ طَاوُسٍ عَنْ اِبْن عَبَّاس، فَوَقَعَ عِنْده بَدَل قَوْله: أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَات وَالْأَرْض: «أَنْتَ قَيَّام السَّمَاوَات وَالْأَرْض» وَكَذَلِكَ أَبُو الزُّبَيْر عَنْ طَاوُسٍ وَطَرِيق قَيْس وَصَلَهَا مُسْلِم وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيق عِمْرَان بْنِ مُسْلِم عَنْ قَيْس وَلَمْ يَسُوقَا لَفْظه وَسَاقَهَا النَّسَائِيُّ كَذَلِكَ وَأَبُو نُعَيْم فِي الْمُسْتَخْرَج، وَرِوَايَة أَبِي الزُّبَيْر وَصَلَهَا مَالِك فِي الْمُوَطَّأ عَنْهُ وَأَخْرَجَهَا مُسْلِم مِنْ طَرِيقه وَلَفْظه: «قَيَّام السَّمَاوَات وَالْأَرْض».
قَوْله: (وَقَالَ مُجَاهِد: الْقَيُّوم: الْقَائِم عَلَى شَيْء):
وَصَلَهُ الْفِرْيَابِيّ فِي تَفْسِيره عَنْ وَرْقَاء عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد بِهَذَا، قَالَ الْحَلِيمِيّ: الْقَيُّوم الْقَائِم عَلَى كُلّ شَيْء مِنْ خَلْقه يُدَبِّرهُ بِمَا يُرِيد، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة بْن الْمُثَنَّى: الْقَيُّوم فَيْعُول وَهُوَ الْقَائِم الَّذِي لَا يَزُول، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْقَيُّوم نَعْت لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْقِيَام عَلَى كُلّ شَيْء فَهُوَ الْقَيِّم عَلَى كُلّ شَيْء بِالرِّعَايَةِ لَهُ.
قَوْله: (وَقَرَأَ عُمَر الْقَيَّام):
قُلْت تَقَدَّمَ ذِكْر مَنْ وَصَلَهُ عَنْ عُمَر فِي تَفْسِير سُورَة نُوح.
قَوْله: (وَكِلَاهُمَا مَدْح):
أَيْ الْقَيُّوم وَالْقَيَّام؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ صِيَغ الْمُبَالَغَة.
6889- حَدِيث عَدِيّ بْن حَاتِم «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبّه لَيْسَ بَيْنه وَبَيْنه تُرْجُمَان» وَقَوْله فِي سَنَده عَنْ خَيْثَمَةَ فِي رِوَايَة حَفْص بْن غِيَاث عَنْ الْأَعْمَش: حَدَّثَنِي خَيْثَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَاب الرِّقَاق وَسِيَاقه هُنَاكَ أَتَمّ، وَسَيَأْتِي أَيْضًا مِنْ وَجْه آخَر عَنْ الْأَعْمَش وَقَوْله: «وَلَا حِجَاب يَحْجُبهُ» فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ «وَلَا حَاجِب» قَالَ اِبْن بَطَّال مَعْنَى رَفْع الْحِجَاب إِزَالَة الْآفَة مِنْ أَبْصَار الْمُؤْمِنِينَ الْمَانِعَة لَهُمْ مِنْ الرُّؤْيَة فَيَرَوْنَهُ لِارْتِفَاعِهَا عَنْهُمْ بِخَلْقِ ضِدّهَا فِيهِمْ، وَيُشِير إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى فِي حَقّ الْكُفَّار {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبّهمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} وَقَالَ الْحَافِظ صَلَاح الدِّين الْعَلَائِيّ فِي شَرْح قَوْله فِي قِصَّة مُعَاذ «وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنهَا وَبَيْن اللَّه حِجَاب» الْمُرَاد بِالْحَاجِبِ وَالْحِجَاب نَفْي الْمَانِع مِنْ الرُّؤْيَة كَمَا نَفَى عَدَم إِجَابَة دُعَاء الْمَظْلُوم ثُمَّ اِسْتَعَارَ الْحِجَاب لِلرَّدِّ فَكَانَ نَفْيه دَلِيلًا عَلَى ثُبُوت الْإِجَابَة وَالتَّعْبِير بِنَفْيِ الْحِجَاب أَبْلَغ مِنْ التَّعْبِير بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْحِجَاب مِنْ شَأْنه الْمَنْع مِنْ الْوُصُول إِلَى الْمَقْصُود فَاسْتُعِيرَ نَفْيه لِعَدَمِ الْمَنْع، وَيَتَخَرَّج كَثِير مِنْ أَحَادِيث الصِّفَات عَلَى الِاسْتِعَارَة التَّخْيِيلِيَّة، وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِك شَيْئَانِ فِي وَصْف ثُمَّ يُعْتَمَد لَوَازِم أَحَدهمَا حَيْثُ تَكُون جِهَة الِاشْتِرَاك وَصْفًا فَيَثْبُت كَمَاله فِي الْمُسْتَعَار بِوَاسِطَةِ شَيْء آخَر فَيَثْبُت ذَلِكَ لِلْمُسْتَعَارِ مُبَالَغَة فِي إِثْبَات الْمُشْتَرَك، قَالَ: وَبِالْحَمْلِ عَلَى هَذِهِ الِاسْتِعَارَة التَّخْيِيلِيَّة يَحْصُل التَّخَلُّص مِنْ مَهَاوِي التَّجَسُّم، قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنْ يُرَاد بِالْحِجَابِ اِسْتِعَارَة مَحْسُوس لِمَعْقُولٍ؛ لِأَنَّ الْحِجَاب حِسِّيّ وَالْمَنْع عَقْلِيّ، قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ ذِكْر الْحِجَاب فِي عِدَّة أَحَادِيث صَحِيحَة وَاللَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَمَّا يَحْجُبهُ إِذْ الْحِجَاب إِنَّمَا يُحِيط بِمُقَدَّرٍ مَحْسُوس؛ وَلَكِنَّ الْمُرَاد بِحِجَابِهِ مَنْعه أَبْصَار خَلْقه وَبَصَائِرهمْ بِمَا شَاءَ مَتَى شَاءَ كَيْف شَاءَ، وَإِذَا شَاءَ كَشَفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله فِي الْحَدِيث الَّذِي بَعْده «وَمَا بَيْن الْقَوْم وَبَيْن أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبّهمْ إِلَّا رِدَاء الْكِبْرِيَاء عَلَى وَجْهه» فَإِنَّ ظَاهِره لَيْسَ مُرَادًا قَطْعًا فَهِيَ اِسْتِعَارَة جَزْمًا وَقَدْ يَكُون الْمُرَاد بِالْحِجَابِ فِي بَعْض الْأَحَادِيث الْحِجَاب الْحِسِّيّ لَكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَخْلُوقِينَ وَالْعِلْم عِنْد اللَّه تَعَالَى، وَنَقَلَ الطِّيبِيُّ فِي شَرْح حَدِيث أَبِي مُوسَى عِنْد مُسْلِم «حِجَابه النُّور لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهه مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ» أَنَّ فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ حِجَابه خِلَاف الْحُجُب الْمَعْهُودَة فَهُوَ مُحْتَجِبٌ عَنْ الْخَلْق بِأَنْوَارِ عِزّه وَجَلَاله وَأَشِعَّة عَظَمَته وَكِبْرِيَائِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْحِجَاب الَّذِي تُدْهَش دُونه الْعُقُول وَتُبْهَت الْأَبْصَار وَتَتَحَيَّر الْبَصَائِر، فَلَوْ كَشَفَهُ فَتَجَلَّى لِمَا وَرَاءَهُ بِحَقَائِق الصُّدُفَات وَعَظَمَة الذَّات لَمْ يَبْقَ مَخْلُوق إِلَّا اِحْتَرَقَ، وَلَا مَنْظُور إِلَّا اِضْمَحَلَّ، وَأَصْل الْحِجَاب السَّتْر الْحَائِل بَيْن الرَّائِي وَالْمَرْئِيّ، وَالْمُرَاد بِهِ هُنَا مَنْع الْأَبْصَار مِنْ الرُّؤْيَة لَهُ بِمَا ذُكِرَ فَقَامَ ذَلِكَ الْمَنْع مَقَام السِّتْر الْحَائِل فَعَبَّرَ بِهِ عَنْهُ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ نُصُوص الْكِتَاب وَالسُّنَّة أَنَّ الْحَالَة الْمُشَار إِلَيْهَا فِي هَذَا الْحَدِيث هِيَ فِي دَار الدُّنْيَا الْمُعَدَّة لِلْفَنَاءِ دُون دَار الْآخِرَة الْمُعَدَّة لِلْبَقَاءِ، وَالْحِجَاب فِي هَذَا الْحَدِيث وَغَيْره يَرْجِع إِلَى الْخَلْق؛ لِأَنَّهُمْ هُمْ الْمَحْجُوبُونَ عَنْهُ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: أَصْل الْحِجَاب الْمَنْع مِنْ الرُّؤْيَة، وَالْحِجَاب فِي حَقِيقَة اللُّغَة السِّتْر، وَإِنَّمَا يَكُون فِي الْأَجْسَام وَاللَّهُ سُبْحَانه مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، فَعُرِفَ أَنَّ الْمُرَاد الْمَنْع مِنْ رُؤْيَته وَذَكَرَ النُّور؛ لِأَنَّهُ يَمْنَع مِنْ الْإِدْرَاك فِي الْعَادَة لِشُعَاعِهِ، وَالْمُرَاد بِالْوَجْهِ الذَّات وَبِمَا اِنْتَهَى إِلَيْهِ بَصَره جَمِيع الْمَخْلُوقَات؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانه مُحِيط بِجَمِيعِ الْكَائِنَات.
6890- حَدِيث أَبِي مُوسَى:
وَعَبْد الْعَزِيز بْن عَبْد الصَّمَد هُوَ اِبْن عَبْد الصَّمَد الْعَمِّيّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَتَشْدِيد الْمِيم، وَأَبُو عِمْرَان هُوَ عَبْد الْمَلِك بْن حَبِيب الْجَوْنِيّ، وَأَبُو بَكْر هُوَ اِبْن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَفْسِير سُورَة الرَّحْمَن.
قَوْله (جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَب آنِيَتهمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّة آنِيَتهمَا وَمَا فِيهِمَا):
فِي رِوَايَة حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ ثَابِت الْبُنَانِيِّ عَنْ أَبِي بَكْر بْن أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ حَمَّاد: لَا أَعْلَمهُ إِلَّا قَدْ رَفَعَهُ قَالَ: «جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبَ لِلْمُقَرَّبِينَ وَمِنْ دُونهمَا جَنَّتَانِ مِنْ وَرِق لِأَصْحَابِ الْيَمِين» أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَابْن أَبِي حَاتِم وَرِجَاله ثِقَات وَفِيهِ رَدّ عَلَى مَا حَكَيْته عَلَى التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم أَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ دُونهمَا جَنَّتَانِ} الدُّنُوّ بِمَعْنَى الْقُرْب لَا أَنَّهُمَا دُون الْجَنَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ قَبْلهمَا، وَصَرَّحَ جَمَاعَة بِأَنَّ الْأُولَيَيْنِ أَفْضَل مِنْ الْأُخْرَيَيْنِ، وَعَكَسَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ، وَالْحَدِيث حُجَّة لِلْأَوَّلِينَ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: اُخْتُلِفَ فِي قَوْله: {وَمِنْ دُونهمَا جَنَّتَانِ} فَقَالَ بَعْضهمْ: مَعْنَاهُ فِي الدَّرَجَة، وَقَالَ آخَرُونَ مَعْنَاهُ فِي الْفَضْل، وَقَوْله جَنَّتَانِ إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ دُونهمَا جَنَّتَانِ} وَتَفْسِير لَهُ، وَهُوَ خَبَر مُبْتَدَأ مَحْذُوف أَيْ هُمَا جَنَّتَانِ، وَآنِيَتهمَا مُبْتَدَأ، وَمِنْ فِضَّة خَبَره، قَالَهُ الْكَرْمَانِيُّ قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون فَاعِل فِضَّة كَمَا قَالَ اِبْن مَالِك مَرَرْت بِوَاد إِبِل كُلّه، أَنَّ كُلّه فَاعِل أَيْ جَنَّتَانِ مُفَضَّض آنِيَتهمَا اِنْتَهَى. وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون بَدَل اِشْتِمَال، وَظَاهِر الْأَوَّل أَنَّ الْجَنَّتَيْنِ مِنْ ذَهَب لَا فِضَّة فِيهِمَا وَبِالْعَكْسِ، وَيُعَارِضهُ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة: قُلْنَا يَا رَسُول اللَّه حَدِّثْنَا عَنْ الْجَنَّة مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ: لَبِنَة مِنْ ذَهَب وَلَبِنَة مِنْ فِضَّة، الْحَدِيث أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان، وَلَهُ شَاهِد عَنْ اِبْن عُمَر أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَسَنَده حَسَن وَآخَر عَنْ أَبِي سَعِيد أَخْرَجَهُ الْبَزَّار وَلَفْظه «خَلَقَ اللَّه الْجَنَّة لَبِنَة مِنْ ذَهَب وَلَبِنَة مِنْ فِضَّة» الْحَدِيث، وَيُجْمَع بِأَنَّ الْأَوَّل صِفَة مَا فِي كُلّ جَنَّة مِنْ آنِيَة وَغَيْرهَا، وَالثَّانِي صِفَة حَوَائِط الْجِنَان كُلّهَا، وَيُؤَيِّدهُ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْد الْبَيْهَقِيِّ فِي الْبَعْث فِي حَدِيث أَبِي سَعِيد «أَنَّ اللَّه أَحَاطَ حَائِط الْجَنَّة لَبِنَة مِنْ ذَهَب وَلَبِنَة مِنْ فِضَّة» وَعَلَى هَذَا فَقَوْله: «آنِيَتهمَا وَمَا فِيهِمَا» بَدَل مِنْ قَوْله: «مِنْ ذَهَب» وَيَتَرَجَّح الِاحْتِمَال الثَّانِي.
قَوْله (وَمَا بَيْن الْقَوْم وَبَيْن أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبّهمْ إِلَّا رِدَاء الْكِبْرِيَاء عَلَى وَجْهه).
قَالَ الْمَازِرِيّ: كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاطِب الْعَرَب بِمَا تَفْهَم وَيُخْرِج لَهُمْ الْأَشْيَاء الْمَعْنَوِيَّة إِلَى الْحِسّ لِيُقَرِّبَ تَنَاوُلهمْ لَهَا، فَعَبَّرَ عَنْ زَوَال الْمَوَانِع وَرَفْعه عَنْ الْأَبْصَار بِذَلِكَ، وَقَالَ عِيَاض: كَانَتْ الْعَرَب تَسْتَعْمِل الِاسْتِعَارَة كَثِيرًا، وَهُوَ أَرْفَع أَدَوَات بَدِيع فَصَاحَتهَا وَإِيجَازهَا، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {جَنَاح الذُّلّ} فَمُخَاطَبَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ بِرِدَاءِ الْكِبْرِيَاء عَلَى وَجْهه وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَمَنْ لَمْ يَفْهَم ذَلِكَ تَاهَ فَمَنْ أَجْرَى الْكَلَام عَلَى ظَاهِره أَفْضَى بِهِ الْأَمْر إِلَى التَّجْسِيم وَمَنْ لَمْ يَتَّضِح لَهُ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّه مُنَزَّهٌ عَنْ الَّذِي يَقْتَضِيه ظَاهِرهَا إِمَّا أَنْ يُكَذِّب نَقَلَتهَا وَإِمَّا أَنْ يُؤَوِّلهَا كَأَنْ يَقُول اِسْتَعَارَ لِعَظِيمِ سُلْطَان اللَّه وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَته وَهَيْبَته وَجَلَاله الْمَانِع إِدْرَاك أَبْصَار الْبَشَر مَعَ ضَعْفهَا لِذَلِكَ رِدَاء الْكِبْرِيَاء، فَإِذَا شَاءَ تَقْوِيَة أَبْصَارهمْ وَقُلُوبهمْ كَشَفَ عَنْهُمْ حِجَاب هَيْبَته وَمَوَانِع عَظَمَته اِنْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْله: «عَلَى وَجْهه»: حَال مِنْ رِدَاء الْكِبْرِيَاء، وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْمُتَشَابِهَات فَإِمَّا مُفَوَّض وَإِمَّا مُتَأَوَّل بِأَنَّ الْمُرَاد بِالْوَجْهِ الذَّات، وَالرِّدَاء صِفَة مِنْ صِفَة الذَّات اللَّازِمَة الْمُنَزَّهَة عَمَّا يُشْبِه الْمَخْلُوقَات، ثُمَّ اِسْتَشْكَلَ ظَاهِره بِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ رُؤْيَة اللَّه غَيْر وَاقِعَة، وَأَجَابَ بِأَنَّ مَفْهُومه بَيَان قُرْب النَّظَر إِذْ رِدَاء الْكِبْرِيَاء لَا يَكُون مَانِعًا مِنْ الرُّؤْيَة فَعَبَّرَ عَنْ زَوَال الْمَانِع عَنْ الْإِبْصَار بِإِزَالَةِ الْمُرَاد اِنْتَهَى. وَحَاصِله: أَنَّ رِدَاء الْكِبْرِيَاء مَانِع عَنْ الرُّؤْيَة فَكَأَنَّ فِي الْكَلَام حَذْفًا تَقْدِيره بَعْد قَوْله إِلَّا رِدَاء الْكِبْرِيَاء: فَإِنَّهُ يَمُنّ عَلَيْهِمْ بِرَفْعِهِ فَيَحْصُل لَهُمْ الْفَوْز بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّ الْمُرَاد أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا تَبَوَّؤُا مَقَاعِدهمْ مِنْ الْجَنَّة لَوْلَا مَا عِنْدهمْ مِنْ هَيْبَة ذِي الْجَلَال لَمَا حَالَ بَيْنهمْ وَبَيْن الرُّؤْيَة حَائِل، فَإِذَا أَرَادَ إِكْرَامهمْ حَفَّهُمْ بِرَأْفَتِهِ وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِتَقْوِيَتِهِمْ عَلَى النَّظَر إِلَيْهِ سُبْحَانه، ثُمَّ وَجَدْت فِي حَدِيث صُهَيْبٍ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَة} مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِرِدَاءِ الْكِبْرِيَاء فِي حَدِيث أَبِي مُوسَى الْحِجَاب الْمَذْكُور فِي حَدِيث صُهَيْبٍ، وَأَنَّهُ سُبْحَانه يَكْشِف لِأَهْلِ الْجَنَّة إِكْرَامًا لَهُمْ، وَالْحَدِيث عِنْد مُسْلِم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْن خُزَيْمَةَ وَابْن حِبَّان وَلَفْظ مُسْلِم أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْل الْجَنَّة الْجَنَّة، يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهنَا وَتُدْخِلنَا الْجَنَّة؟ قَالَ: فَيَكْشِف لَهُمْ الْحِجَاب فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبّ إِلَيْهِمْ مِنْهُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَة} أَخْرَجَهُ مُسْلِم عَقِب حَدِيث أَبِي مُوسَى، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى تَأْوِيله بِهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي الْمُفْهِم الرِّدَاء اِسْتِعَارَة كَنَّى بِهَا عَنْ الْعَظَمَة كَمَا فِي الْحَدِيث الْآخَر «الْكِبْرِيَاء رِدَائِي وَالْعَظَمَة إِزَارِي» وَلَيْسَ الْمُرَاد الثِّيَاب الْمَحْسُوسَة؛ لَكِنَّ الْمُنَاسَبَة أَنَّ الرِّدَاء وَالْإِزَار لَمَّا كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ لِلْمُخَاطَبِ مِنْ الْعَرَب عَبَّرَ عَنْ الْعَظَمَة وَالْكِبْرِيَاء بِهِمَا، وَمَعْنَى حَدِيث الْبَاب أَنَّ مُقْتَضَى عِزَّة اللَّه وَاسْتِغْنَائِهِ أَنْ لَا يَرَاهُ أَحَد لَكِنَّ رَحْمَته لِلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَضَتْ أَنْ يُرِيَهُمْ وَجْهه كَمَالًا لِلنِّعْمَةِ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِع فَعَلَ مَعَهُمْ خِلَاف مُقْتَضَى الْكِبْرِيَاء فَكَأَنَّهُ رَفَعَ عَنْهُمْ حِجَابًا كَانَ يَمْنَعهُمْ، وَنَقَلَ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَلِيّ وَغَيْره فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَدَيْنَا مَزِيد} قَالَ هُوَ النَّظَر إِلَى وَجْه اللَّهِ.